فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد تقدَّم الكلامُ على {أرأيتم} هذه في الأنعام، وتلخيصُه هنا أنَّ {أَرَأَيْتُم} يطلب البينة منصوبةً، وفعل الشرط يطلبُها مجرورةً ب {على}، فأعمل الثاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيتم البيِّنَةَ من ربي إن كنتُ عليها أَنَلْزِمكموها، فحذف المفعولُ الأول، والجملةُ الاستفهامية هي في محل الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدلالة عليه.
وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أتى هنا بالضميرين متصلين، وتقدم ضمير الخطاب لأنه أخصُّ، ولو جيء بالغائب أولًا لا نفصل الضميرُ وجوبًا. وقد أجاز بعضُهم الاتِّصال، واستشهد عثمان أراهُمُني الباطل شيطانًا. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون الثاني منفصلًا كقوله: {أَنُلْزِمكم إياها} ونحوه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] ويجوز {فسيكفيك إياهم}. وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضُهم مَنَعه.
وإشباعُ الميم في مثل هذا التركيب واجبٌ، ويضعف سكونُها، وعليه أراهُمني الباطل. وقال أبو البقاء: وقرئ بإسكان الميم فِرارًا من توالي الحركات فقوله هذا يحتمل أن يكون أراد سكونَ ميم الجمع؛ لأنه قد ذكر ذلك بعدما قال: ودَخَلَتِ الواوُ هنا تتمةً للميم، وهو الأصل في ميم الجمع، وقرئ بإسكان الميم. انتهى. وهذا إن ثَبَتَ قراءةً فهو مذهبٌ ليونس: يُجَوِّزُ الدرهمَ أعطيتكمْه وغيرُه يأباه. ويحتمل أَنْ يريد سكونَ ميم الفعل، ويدل عليه ما قال الزجاج أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإِعرابِ إلا في ضرورة الشعر، فأمَّا ما روي عن أبي عمرو فلم يَضْبطه عنه القرَّاء، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركةَ ويختلِسُها، وهذا هو الحقُّ، وإنما يَجُوز الإِسكانُ في الشعرِ نحو قولِ امرئ القيس:
فاليَومَ أشرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ ** ..............

وكذا قال الزمخشري أيضًا: وحُكي عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهُه أنَّ الحركةَ لم تكن إلا خِلْسةً خفيفةً، فظنَّها الراوي سكونًا، والإِسكانُ الصريحُ لحنٌ عند الخليل وسيبويه وحُذَّاقِ البصريين؛ لأن الحركةَ الإِعرابيةِ لا يُسَوَّغ طَرْحُها إلا في ضرورةِ الشعر.
قلت: وقد حكى الكسائي والفراء {أَنُلْزِمْكموها} بسكون هذه الميم، وقد تقدم القول في ذلك مشبعًا في سورة البقرة، أعني تسكينَ حركةِ الإِعراب فكيف يَجْعلونه لحنًا؟.
وألزم يتعدَّى لاثنين، أوَّلهُما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة. و: {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعلِ أو لأحد المفعولين. وقدَّم الجارَّ لأجل الفواصل. وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد أَضْرِبُ عنها لذلك.
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} والضمير في {عليه} يجوز أن يعودَ على الإِنذار المفهوم من {نذير}، وأن يعودَ على الدين الذي هو المِلَّة، وأن يعود على التبليغ. وقرئ: {بطاردٍ الذين} بتنوين {طاردٍ} قال الزمخشري: على الأصل. يعني أن أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ، وهو ظاهرُ قولِ سيبويه. قال الشيخ: ويمكن أن يُقال: الأصلُ الإِضافةُ لا العملُ؛ لأنه قد اعتوره شَبَهان، أحدهما: لشَبَهه بالمضارع وهو شَبَهٌ بغير جنسه، والآخر: شَبَهُه بالأسماء إذا كانت فيه الإِضافة، فكان إلحاقُه بجنسه أَوْلى.
وقوله: {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو} استئنافٌ يفيدُ التعليل. وقوله: {تَجْهلون} صفةٌ لابد منها إذ الإِتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفتِه لا يفيد، وأتى بها فعلًا ليدلَّ على التجدُّد كلَّ وقت.
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}
و{تَزْدَري} تَفْتَعِل مِنْ زرى يَزْري، أي: حَقَرَ، فأُبدلت تاءُ الافتعال دالًا بعد الزاي وهو مُطَّرِد، ويقال: زَرَيْتُ عليه إذا عِبْتَه، وأَزْرَيْتُ به، أي: قَصَّرت به. وعائدُ الموصولِ محذوفٌ، أي: تَزْدَريهم أعينُكم، أي: تحتقرهم وتُقَصِّر بهم، قال الشاعر:
تَرَى الرجلَ النحيفَ فَتَزْدَريه ** وفي أثوابهِ أسدٌ هَصُورُ

وقال أيضًا:
يباعِدُه الصَّديقُ وتَزْدريهِ حَلِيْلتُه ** ويَنْهرَهُ الصغيرُ

واللام في {للذين} للتعليل، أي: لأجل الذين، ولا يجوز أن تكونَ التي للتبليغ إذ لو كانت لكان القياس {لن يؤتيكم} بالخطاب. وقوله: {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} الظاهر أن هذه الجملةَ لا محلَّ لها عطفًا على قولِه: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ} كأنه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث. وقد تقدَّم في الأنعام أن هذا هو المختار وأن الزمخشري قال: إنَّ قوله تعالى: {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} معطوفٌ على {عندي خزائن}، أي: لا أقولُ: عندي خزائن اللَّه، ولا أقول: أنا أعلمُ الغيب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} (هود: 28)، في قصة صالح بعد: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} (هود: 63)، للسائل أن يسأل عن مجاوبة كل واحد من هذين النبيين الكريمين لقومه، لم تقدم المجرور في قول صالح عليه السلام: {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} على المفعول الثاني من مفعولي أتى التي هو رحمة والوجه تأخيره لأنه فضله كما تقدم متأخرا في قول نوح عليه السلام: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}؟
والجواب على ذلك: أن قوم صالح، عليه السلام، بالغوا في أساءت الجواب حين قالوا: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} (هود: 62)، أي قد كنت مرجوًا أن تسود فينا حتى نقطع عن رأيك ونرجع إليك من أمورنا، فرموا مقامه النبوي بحط مرتبته عنهم، فلما بالغوا في إساءة الجواب جاوبهم، عليه السلام، ردا لمقالهم الشنيع بقوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} (هود: 63)، ولا شك أن عليه السلام كذلك، وأنه على بصيرة من أمره، ولكنه خاطبهم على ما يجري في مناظرة من فرض ما لا يعتقده المناظر على حسب نطقه، ولكنه يستنزل بذلك مناظرة ليقيم الحجة عليه، فيقول هب كذا على ما تقوله، فعلى هذا جرى قول النبي الكريم: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، أي كيف ترون إن كنت على واضحه وعلى يقين من ربي وآتاني منه رحمة فعصيته بموافقتكم، فإن فعلت ذلك فمن ينصرني ويمنعني من عذابه، فخاطبهم عليه السلام بطريقة فرض هذا: إن كان كذا، وهو عليه السلام العليم بحاله الجليل، وعلى بينة من ربي، وأكد بتقدم المجرور في قوله: {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}، لما يحرز تقديمه من التأكد ويعيه مفهومه من أن الرحمة منه سبحانه لا يشرك فيها غيره، فهو مخصوص لا يحصل مع تأخيره. فتقديم هذا الضمير المجرور كتقديمه في قوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الأخلاص: 4)، وقد تقدم مثله في إنشاد سيبويه (رحمة الله عليه):
لتقربن قربًا لجذيا ** ما دام فيهن فصيل حيا

فلما بالغوا في قبح الجواب بالغ، عليه السلام في رد مقالهم، فقدم المجرور لتأكيد أن الرحمة من عند الله تعالى: {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}.
ولما لم يكن في مراجعة قوم نوح مثل هذا في شناعة الجواب، لأن أقصى المفهوم من قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا}، إلحاقه بهم ومماثلته إياهم، وكلهم يقولون لو كنت رسول لكنت من الملائكة ولم تكن لتماثلنا. فلم يكن في قول هؤلاء ما في قول قوم صالح، فجرى جوابه، عليه السلام، على نسبة ذلك فقال: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}، فأتى بالمجرور مأخرًا في محله على ما يجب، حيث لا يقصد في إحراز المفهوم ما قصد في الآية الأخرى، فورد كل على ما يلائم، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}
الصُّبحُ لا خَلَلَ في ضيائه لِكَوْن الناظرين عميانًا، والسيفُ لا خَلَلَ في مُضَائِه لِكَوْنِ الضاربين صبيانًا....... وكيف لِبَشَرٍ من قدرةٍ على هداية مَنْ أَضَلَّه اللَّهُ- ولو كان نبيَّا؟ هيهات لا ينفع مع الجاهل نُصحٌ، ولا ينجح في المُصِرِّ وعظٌ! {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)} سُنَّة الأنبياء- عليهم السلام- ألا يطلبوا على رسالتهم أجرًا، وأَلاَّ يُؤَمِّلُوا لأنفسهم عند الخْلق قَدْرًا، عَمَلُهُم لله لا يطلبون شيئًا من غير الله. فَمَنْ سَلكَ من العلماء سبيلَهم حُشِرَ في زمرتهم، ومَنْ أَخَذَ على صلاحِه مِنْ أحدٍ عِوَضًا، أو اكتسب بسداده جاهًا لم يَرَ من الله إلا هوانًا وصَغَارًا.
{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)}
مجالسةُ الفقراءِ اليومَ- وهم جُلساءُ الحقِّ غدًا- أجدى من مجالسة قومٍ من الأغنياء هم من أهل الردِّ.
ومَنْ طَرَدَ مَنْ قَرَّبَه الله وأدناه استوجب الخِزْيَ في دنياه، والصَّغَارَ في عقباه.
قوله جلّ ذكره: {وَلآَ أَقُولُ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلآَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلآَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}.
لا أتخطَّى خَطِّي عما أبلغ مما حملتُ من رسالتي، ولا اتعدَّى ما كُلِّفْتُ به، ولا أزيد عما أُمِرْتُ، ولن أخرجَ عن الذي أنبأوني، بل أنتصب بشاهدي فيما أقاموني.
قوله جلّ ذكره: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}.
إن أولياء الله سبحانه في أثوابهم ولا يراهم إلا من قرَبَهم في معناهم. اللَّهُ أعلمً بأحوالهم وفي الجملة: طيرُ السماءِ على أُلاَّفها تقع. اهـ.

.تفسير الآيات (32- 35):

قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فلما استوفى نقض ما أبرموه في زعمهم من جوابهم على غاية الإنصاف واللين والاستعطاف، استأنف الحكاية عنهم بقوله: {قالوا} أي قول من لم يجد في رده شبهة يبديها ولا مدفعًا يغير به: {يا نوح قد جادلتنا} أي اردت فتلنا وصرفنا عن آرائنا بالحجاج وأردنا صرفك عن رأيك بمثل ذلك: {فأكثرت} أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أنك أكثرت: {جدالنا} أي كلامنا على صورة الجدال: {فأتنا} أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أن نقول لك: لم يصح عندنا دعواك، ائتنا: {بما تعدنا} من العذاب: {إن كنت} أي كونًا هو جبلة لك: {من الصادقين} أي العريقين في الصدق في أنه يأتينا فصرحوا بالعناد المبعد من الإنصاف والاتصاف بالسداد وسموه باسمه ولم يسمحوا بأن يقولوا له: يا ابن عمنا، مرة واحدة كما كرر لهم: يا قوم، فكان المعنى أنا غير قابلين لشيء مما تقول وإن أكثرت وأطلت- بغير حجة منهم بل عنادًا وكبرًا فلا تتعب، بل قصر الأمر مما تتوعدنا به، وسموه وعدًا سخرية به، أي أن هذا الذي جعلته وعيدًا هو عندنا وعد حسن سار باعتبار أنا نحب حلوله، المعنى أنك لست قادرًا على ذلك ولا أنت صادق فيه، فإن كان حقًا فائتنا به، فكأنه قيل: ماذا قال لهم؟ فقيل: {قال} جريًا على سنن قوله: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب}، {إنما يأتيكم به الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء فتبرأ من الحول والقوة ورد ذلك إلى من هو له، وأشار بقوله: {إن شاء} إلى أنه مخير في إيقاعه وإن كان قد تقدم قوله به إرشادًا إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، بل ولا يسأل عما يفعل وإن كان لا يقع إلا ما أخبر به؛ ثم بين لهم عجزهم وخطأهم في تعرضهم للهلاك فقال: {وما أنتم بمعجزين} أي في شيء من الأوقات لشيء مما يريده بكم سبحانه؛ والإكثار: الزيادة على مقدار الكفاية؛ والمجادلة: المقابلة بما يفتل الخصم عن مذهبه بحجة أو شبهة، وهو من الجدل وهو شدة الفتل والمطلوب به الرجوع عن المذهب، والمطلوب بالحجاج ظهور الحجة، فهو قد يكون مذمومًا كالمراء، وذلك حيث يكون للتشكيك في الحق بعد ظهوره، وحيث قيد الجدال ب {التي هي أحسن} [العنكبوت: 46] فالمراد به إظهار الحق.
ولما بين أنهم إنما هم في قبضته سبحانه، زاد في بيان عظمته وأن إرادته تضمحل معها كل إرادة في سياق دال على أنه بذلك ناصح لهم وأن نصحه خاص بهم، فقال جوابًا لما وهموا من أن جداله لهم كلام بلا طائل: {ولا ينفعكم نصحي} وذكر إرادته لما يريد أن يذكره من إرادة الله فقال: {إن أردت} أي جمعت إلى فعل النصح إرادة: {أن أنصح لكم} بإعلام موضع الغي ليتقى والرشد ليتبع، وجزاءه محذوف تقديره: لا ينفعكم نصحي: {إن كان الله} أي الذي له الأمر كله: {يريد أن يغويكم} أي يضلكم ويركبكم غير الصواب فإنه إرادته سبحانه تغلب إرادتي وفعلي معًا لا ينفعكم شيء إشارة إلى أنكم لا تقدرون على دفع العذاب بقوة فتكونوا غالبين، ولا بطاعة فتكونوا محبوبين مقربين إن كان الله يريد إهلاككم بالإغواء، وأن أردت أنا نجاتكم، ولم يقل: ولا ينفعكم نصحي إن نصحت لكم، إشارة إلى أني لا أملك إلا إرادتي لنصحكم، فإذا أردته فغاية ما يترتب عليه من فعلي وقوع النصح وإخلاصه لكم، وأما النفع به فلا شيء منه إليّ، بل هو تابع لمراد الله، فإن أراد غوايتكم حصلت لا محالة، ولم يقع ما قد يترتب على النصح من عمل المنصوح بمقتضاه المستجلب لنفع المستدفع للضر؛ ثم رغبهم في إحسانه ورهبهم من انتقامه معللًا لعدم ما لا يريده: {هو ربكم} أي الموجد لكم المدبر لأموركم فهو يتصرف وحده لما يريد.
ولما كان التقدير: فمنه مبدؤكم، عطف عليه قوله: {وإليه} أي لا إلى غيره: {ترجعون} أي بأيسر أمر وأهونه بالموت ثم البعث فيجازيكم على أعمالكم كما هي عادة الملوك مع عمالهم.
ولما كان مضمون هذه الآية نحو مضمون قوله: {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} فإن النذير من ينصح المنذر، والوكيل هو المرجوع إليه في أمر الشيء الموكول إليه، وما قبلها تعريض بنسبة نوح عليه السلام إلى الافتراء، تلاه بما تلا به ذاك من النسبة إلى الافتراء وإشارة إلى أن هذه القصص كلها للتسلية في أمر النذارة والتأسية فكأنه قيل: أيقولون لك مثل هذه الأقوال فقد قالوها لنوح كما ترى، ثم والى عليهم من الإنذار ما لم يطعموا معه في ترك شيء مما أمرناه به أعجبهم أو أغضبهم، فلك به أسوة وحسبك به قدوة في أن تعد كلامهم عدمًا وتقبل على ما أرسلناك به من بذل النصيحة بالنذارة: {أم يقولون} في القرآن: {افتراه} إصرارًا على ما تقولوه فدمغه الدليل وأدحضته الحجة فكأنه قيل: نعم، إنهم يقولون ذلك، فقيل: لا عليك فإنه قول يقصدون به مجرد العناد وهم يعلمون خلافه بعد ما قام عليهم من الحجج التي وصلوا معها إلى عين اليقين فلا يهمنك قولهم هذا، فإنهم يجعلونه وسيلة إلى تركك بعض ما يوحى إليك فلا تفعل، بل: {قل} في جواب قولهم هذا: {إن افتريته} أي قطعت كذبه: {فعليَّ} أي خاصًا بي: {إجرامي} أي وباله وعقابه دونكم وإذا استعلى عليَّ الإجرام عرف ذلك لأرباب العقول وظهر ظهورًا أفتضح به وأنتم أعرف الناس بأني أبعد من ذلك مما بين اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين لما تعلمون مني من طهارة الشيم وعلو الهمم وطيب الذكر وشريف القدر وكريم الأمر، هذا لو كنت قادرًا على ذلك فكيف وأنا وأنتم في العجز عنه سواء: {وأنا بريء} أي غاية البراءة: {مما تجرمون} أي توجدون إجرامه، ليس عليَّ من إجرامكم عائد ضرر بعد أن أوضحته لكم وكشقت عنكم غطاء الشبه، إنما ضرره عليكم فاعملوا على تذكر هذا المعنى فإن سوق جوابهم على هذا الوجه أنكى لهم من إقامة حجة أخرى لأنهم يعلمون منه أنه إلزام لهم بالفضيحة لانقطاعهم لدى من له وعي، ويمكن أن يكون التقدير: هل انتبه قومك يا محمد فعلموا قبح مثل هذه الحال وأنها حال المعاندين، فرجعوا تكرمًا عن ركوب مثلها واستحياء: {أم يقولون افتراه} أي كذبه متعمدًا استمرارًا على العناد وتماديًا في البعاد كما تمادى قوم نوح فيحل بهم ما حل بهم، أي هل رجعوا بهذا المقدار من قصة قوم نوح أم هم مستمرون على ما نسبوك إليه في أوائل السورة من افترائه فيحتاجون إلى تكميل القصة بما وقع من عذابهم ليخافوا مثل مصابهم؛ وافتراء الكذب: افتعاله من قبل النفس فهو أخص من مطلق الكذب لأنه قد يكون تقليدًا للغير. اهـ.